يعد التغير الاجتماعي بوسائله العنيفة الثورية او التدريجية السلمية من السّمات التي لازمت الإنسانية منذ فجر نشأتها حتى عصرنا الحاضر، لدرجة بات التغير معها إحدى السّنن المسّلم بها، للدلالة على تفاعل أنماط الحياة على اختلاف أشكالها لتحقق باستمرار أنماطاً وقيما اجتماعية جديدة يشعر في ظلها الأفراد أنّ حياتهم متجددة.
وفي العالم العربي عانت الشعوب من ظلم اقتصادي مسرف، ومن تعسف سياسي واجتماعي بالغي الشدة والوضوح، ومع ذلك لم تتحرك الطبقات المضطهدة ولم تظهر أية جهة من القاعدة العريضة لتلك المجتمعات تنادي بتحسين أوضاعها. ولم يوجد في تلك البلدان حركات ثورية ذات معنى توحي بإمكانية تغيير الوضع القائم أو الثورة عليه، وهذا يرجع إلى قدرة النخب الحاكمة على تبرير هذا الظلم أيديولوجياً بطريقة أو بأخرى، أي عن طريق العمل السياسي الذي تتبناه الدولة لكي تحصل على الشرعية التي تبقيها في السلطة.
والجدير بالذكر أن شرعية الأنظمة الحاكمة بشكل عام تأتي من قيامها بما انيطت به من مهام وواجبات، وفي مقدمتها المحافظة على حياة المواطنين وتوفير سبل العيش الكريم لهم، فإذا ما فرطت الدولة بتلك المهام، تكون قد فرطت في سبب بقائها من الاصل، وقد يقع ذلك اما بعجز الدولة والسلطة عن القيام بواجباتها إزاء مواطنيها، واما عن طريق اجحافها باستخدام العنف المفرط وغير المبرر, ومن ثم تفقد السلطة شرعيتها وتوجب القيام ضدها بجميع الوسائل المتاحة العنيفة او السلمية, فهناك نقطتان فاصلتان بين حق السلطة في الحفاظ على استقرار المجتمع ومن ثم بقائها وبين حق المجتمع صاحب الشرعية الاصيل في تغيير احواله المتردية او التي اصبح غير راضٍ عنها، ويمكن ان نختصر القول هنا بالصراع بين الشرعية والمشروعية حول احداث تغيير جذري او واسع في المجتمع.
والأمر الذي لاشك فيه أن الثورات التي تفجرت في بعض الدول العربية كانت وليدة تفاعلات وتراكمت على مدى سنوات طويلة شهدت تفاقم الكثير من الأزمات والكثير من إخفاقات النظم الحاكمة سواء على مستوى إدارة السياسة والحكم في الداخل وعلى الأخص أزمات تفشِّي سياسات الاستبداد والفساد وسيطرة الدولة البوليسية على كل مناحي الحياة، وتفنن الأجهزة الأمنية وغيرها من الأجهزة الحكومية في إهدار كرامة المواطنين، ورفض النظم الحاكمة إجراء إصلاحات حقيقة أو التحايل بأساليب متنوعة على المطالب الإصلاحية, وما حدث من احتكار للثروة والسلطة واتساع هائل للفجوة بين الأغنياء والفقراء، وضياع الحلم الوطني وغياب الولاء والدافعية للوعي بالوطن واحتياجاته, وبعبارة أخرى فإن النظم العربية التي استمرت لعقود في الحكم تستمرأ الكذب والتضليل فأخفقت في تحقيق أهداف وطموحات العرب الكبرى في التنمية المستقلة، والديمقراطية، والعدالة الاجتماعية.
وما تجدر الاشارة الية ان الحراك الشعبي العربي الذي بدأ مع العام 2011م، الذي سمي بثورات الربيع العربي قد صاحبه ظهور بعض الايجابيات في البداية فيما يخص مكافحة الفساد وملاحقة المفسدين، إلا ان تلك الايجابيات قد تلاشت سريعاً بل وطغت السلبيات على كل ماهو جميل ومحفز لخوض الكفاح الشعبي نحو ايجاد انظمة حكم ديمقراطية عادلة، الى الحد الذي جعل البعض يعض اياديه ندماً ان شارك في تلك الاحتجاجات.
وقد أخطأ كثيرون توقع نجاح موجة الثورات العربية, فأغلب الثورات العربية التي تفجرت إثر بعضها بعضًا ابتداءً من الثورة التونسية, كانت ثورات شعبية بلا قيادة ولا تنظيم ولا حتى رؤية موحدة، فأغلب الأحزاب السياسية فقدت شرعيتها بسقوط النظام وحزبه الحاكم، ولم يكن في مقدور أي منها تقديم البديل.
والحديث عن واقع الأنظمة العربية في ظل ما سمي بثورات الربيع العربي يثير العديد من التساؤلات التي تمثل بدورها مدخلاً لتقييم هذا الواقع, وتشكل السياق المنطقي للحكم على مدى نجاح او فشل موجة الثورات العربية, ومن اهم تلك التساؤلات: كيف تفقد السلطة شرعيتها؟ وما هي الأسباب التي أدت إلى قيام الحراك الثوري ضد الأنظمة السياسية العربية؟, وما هي المبررات والدواعي التي ادت الى سقوط تلك النظم؟ وهل حقق الحراك الثوري أهدافه وطموحاته في التنمية المستقلة، والديمقراطية، والعدالة الاجتماعية, واصلاح الاوضاع المتردية؟ وكيف اصبح واقع الأنظمة العربية بعد احداث الربيع العربي؟
وعليه فإن الدراسة سوف تحاول الاجابة على التساؤلات الرئيسية والمتفرعة عنها من خلال تقسيم الدراسة الى مبحثين, خصص الأول منها للحديث عن واقع الأنظمة العربية قبل احداث الربيع العربي للتعرف على الأسباب التي أدت إلى سقوط شرعية تلك الأنظمة, وفي المبحث الثاني نتناول واقع الأنظمة العربية بعد احداث الربيع العربي. ولعدم الاطالة أحلنا بيان بعض المفاهيم الخاصة بالثورة والشرعية, الى المراجع المتخصصة( ).
د. عبدالباسط محمد السلمي
تحميل
————————————
admin
الربيع العربي